الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***
{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} قلت: المراودة: المطالبة، من راد يرود: إذا جاء وذهب لطلب الشيء، ومنه الرائد. و(هيت): اسم فعل معناه: تعال، أو أقبل، مبني على الفتح كأين، واللام للتبيين، كالتي في سقيا لك، وقرأ ابن كثير: بالضم، تشبيهاً بحيث، ونافع وابن عامر بالفتح، وهي لغة فيه. وقرئ: «هئْت» بالهمز؛ كجئت، من هَاءَ يهيء: إذا تهيأ. و(معاذ الله): مصدر لمحذوف، أي: أعوذ بالله معاذاً. و(إنه): ضمير الشأن. و(لولا): حرف امتناع، وجوابها محذوف، أي: لخالطها، ولا يجوز أن يكون (وهمَّ بها): جوابها؛ لأن حكمها حكم الشرط، فلا يتقدم عليها جوابها. قاله البيضاوي. قلت: وبهذا يُرد على من وقف على (همت به)، كالهبطى، ومن تبعه، إلا أن يُحمل على أنه ابتداء كلام مع حذف الجواب. واستحسنه البعض؛ ليكون همُّ يوسف خارجاً عن القسم، (وكذلك): في موضع المصدر، أي: ثبتناه مثل ذلك التثبيت لنصرف.. الخ، و(المخلصين) بالفتح: اسم مفعول من: أخلصه الله. وبالكسر: اسم فاعل بمعنى أخلص دينه لله. يقول الحق جل جلاله: {وراودتْه} للفاحشة، أي: تمحلت وطلبت منه أن يوافقها {التي هو في بيتها}؛ وهي زليخا. وترك التصريح بها؛ استهجاناً. فراودته عن نفسه، {وغلقتِ الأبوابَ}، قيل: كانوا سبعة. والتشديد للتكثير، أو للمبالغة في الإيثاق، {وقالت هَيت لك} أي: أقبل وبادر، أو تهيأتُ لك. رُوي أنها تزينت بأحسن ما عندها، وقالت: تعالى يا يوسف، {قال مَعَاذَ الله}؛ أي: أعوذ بالله معاذاً، {إنه} أي: الشأن، {ربي أحسن مثواي}؛ سيدي أحسن إقامتي وتربيتي، إذ قال لك أكرمي مثواي، فما جزاؤه أن أخونه في أهله، أو أنه تعالى ربي أحسن مَنزلي؛ بأن عطف عَلَيَّ قلبَ سيدي، ولطف بي في أموري، فلا أعصيه، {إنه لا يُفلح الظالمون}؛ المجاوزون الإحسان إلى الإساءة، أو الزناة؛ فإن الزنى ظلم على الزاني والمزنيّ بأهله. {ولقد هَمَّتْ به وهمَّ بها}، قال ابن جزي: أكْثََرَ الناسُ الكلامَ في هذه الآية، حتى ألفوا فيها التآليف، فمنهم مفرط ومُفرّط؛ وذلك أن منهم من جعل هَمَّ المرأة وهَمَّ يوسف من حيث الفعل الذي أرادته. وذكروا من ذلك روايات من جلوسه بين رجليها، وحله للتكَّة، وغير ذلك مما لا ينبغي أن يقال به؛ لضعف نقله ولنزاهة الأنبياء عن مثله، ومنهم من قال: همت به لتضربه على امتناعه، وهَمَّ بها ليقتلها أو يضربها؛ ليدفعها. وهذا بعيد يرده قوله: {لولا أن رأى برهان رَبِّهِ}. ثم قال: والصواب إن شاء الله: أنها همت به من حيث مرادُها، وهَمَّ بها كذلك، لكنه لم يعزم على ذلك، ولم يبلغ إلى حد ما ذكر من حل التكَّة، بل كان همه خطرة خطرت على قلبه، ولم يتابِعها، ولكنه بادر إلىلتوبة والإقلاع عن تلك الخطرة، حتى محاها من قلبه، لمَّا رأى برهان ربه. ولا يقدح هذا في عمة الأنبياء؛ لأن الهم بالذنب لبس بذنب، ولا نقص في ذلك؛ لأنَّ من هَمَّ بذنب ثم تركه كتب له حسنة. ه. قلت: وكلامه حسن؛ لأن الخطرات لا طاقة للبشر على تركها، وبمجاهدة مخالفتها فُضِّل البشر على جنس الملائكة، وقال البيضاوي: والمراد بهمه: ميل الطبع، ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل، لمن يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفته، كقوله: قتلته لو لم أخف الله. ه. ومثله في تفسير الفخر، وأنه مال إليها بمقتضى الطبع، ومُنع منه بصارف العصمة، كالصائم يشتاق الماء البارد ويمنعه منه صومه. ومثله أيضاً في لطائف المنن: همت به هَمَّ إرادة، وهَمَّ بها هَمَّ ميل لا هَمَّ إرادة. قال المحشي الفاسي: وفيه نظر؛ لأن ذلك لا يتصور في النفوس المطمئنة. وإنما ذلك شأن أرباب التلوين والمجاهدة، دون أهل التمكين والمشاهدة، وخصوصاً الأنبياء؛ إذ صارت نفوسهم مشاكلة للروح، مندرجة فيها، ولذلك صارت مطمئنة، وميلها حينئذ إنما يكون للطاعة، وأما غير الطاعة، فهي بمنزلة القذر والنتن تشمئز منه، ولا يتصور بحال ميلها إليه. ثم أطال الكلام في ذلك. قلت: أما تفسير الهم بالميل فلا يليق بالنفس المطمئنة. وأما تفسيره بالخاطر فيتصور في المطمئنة وغيرها. وإنما سماه الله تعالى هماً في حق يوسف عليه السلام؛ لأن الأنبياء عليهم السلام لعلو منصبهم، وشدّة قربهم من الحضرة، يشدد عليهم في مطالبة الأدب، فيجعل الخاطر في حقهم هَمّاً وظناً. كما قال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف: 110] فيمن خفف الذال، أو كما قال تعالى في حق يونس عليه السلام: {فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْه} [الأنبياء: 87]؛ على أحد التفاسير. والله تعالى أعلم. ثم قال تعالى: {لولا أن رأى برهانَ ربه} لخالطها. والبرهان الذي رأى: قيل: ناداه جبريل: يا يوسف تكون في ديوان الأنبياء، وتفعل فعل السفهاء. وقيل: رأى يعقوب عاضاً على أنامله، يقول: إياك يا يوسف والفاحشة. وقيل: تفكر في قبح الزنى فاسبتصر. وقيل: رأى زليخا غطت وجه صنمها حياءً منه، فقال: أنا أولى أن أستحي من ربي. {كذلك} أي: مثل ذلك التثبيت ثبتناه؛ {لِنَصْرِِفَ عنه السّوءَ}؛ خيانة السيد، {والفحشاءَ}، الزنى؛ {إنه من عبادنا المخلَصين} الذين أخلصناهم لحضرتنا. أو من الذين أخلصوا وجهتهم إلينا. {واسْتَبَقَا البَابَ} أي: تسابقا إلى الباب، وابتدرا إليه، وذلك أن يوسف عليه السلام فرَّ منها؛ ليخرج حيث رأى البرهان، وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج، {وقَدّت قميصَه من دُبُرٍ} أي: شقت قميصه من خلف لما اجتذبته لترده. والقدُّ الشق طولاً، والقَطُّ: الشق عرضاً، {وألفيا سيدها}: وصادفاً زوجها {لدى الباب}؛ وفيه إطلاق السيد على الزوج، وإنما أفرد الباب هنا، وجمعه في قوله: {وغلقت الأبواب} لأن المراد هنا الباب البراني الذي هو المخرج من الدار. {قالتْ} لزوجها: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يَسجن أو عذابٌ أليم} ؟ قالته إيهاماً أنها فرت منه؛ تبرئة لساحتها عند زوجها، وإغراء له عليه؛ انتقاماً لنفسها لما امتنع منها. {قال هي راودتني عن نفسي}: طالبتني بالمواقعة بها. قال ذلك تبرئة لساحته، ولو لم تكذب عليه ما قاله. {وَشَهِدَ شاهدٌ من أهلها}، قيل: ابن عمها. وقيل: ابن خالها صبياً في المهد. وكونه من أهلها أوجب للحجة عليها، وأوثق لبراءة يوسف. وكونه لم يتكلم قط، ثم تكلم كرامة ليوسف عليه السلام، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «تكلم في المهد أربعةٌ: ابنُ ماشِطة ابنة فرعَون، وشَاهِدُ يُوسفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْج، وعيسَى» وذكر مسلم في صحيحه في قصة الأخدود: «أن امرأة أتِي بها لتُطْرَح في النار، ومعها صبي يرضع، فقال لها: يا أمه اصبري، لا تجزعي. فأنك على الحق». وعَدَّ بعضهم عشرة تكلموا في المهد، فذكر إبراهيم عليه السلام، ويحيى بن زكريا، ومريم، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وطفلاً في زمنه عليه السلام، وهو: مبارك اليمامة، وقد نظمهم السيوطي، وزاد واحداً، فقال: تكلم في المَهدِ النَّبيُّ مُحَمدٌ *** ويحيى وعيسى والخليلُ ومريمُ وصَبِيّ جُريْجٍ ثم شاهِدُ يوسِفُ *** وطِفلٌ لدى الأُخدود يَرويهِ مُسلِمُ وطفلٌ عَلَيهِ مُرَّ بالأمَةِ الَّتي *** يُقالُ لَها تَزنِي ولا تَتَكَلَّمُ وماشِطَةٌ فِي عَهدِ فرعون طِفلُها *** وفي زَمَنِ الهادي المُبَاركُ تُختَمُ وذكر ابن وهب عن أبي لهيعة قال: بلغني أن المولود فيما تقدم كان يولد في الليل، فيصبح يمشي مع أمه. ه. وضعف ابن عطية كون شاهد يوسف صبياً بالحديث «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة»، وبأنه لو كان الشاهد صبياً لكان الدليل نفس كلامه، دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص. ه. وقد يجاب بأن الحصر باعتبار بني إسرائيل، مع أن الوحي يتزايد شيئاً فشيئاً، فأخبر بثلاثة، ثم أخبر بآخرين، وبأن الاستدلال وقع بهما تحقيقاً للقضية. ثم ذكر الحق تعالى ما قاله الشاهد، فقال: {إن كان قميصُه قُدَّ من قُبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين}؛ لأنه يدل على أنها قدت قميصه من قُدامه بالدفع عن نفسها. أو لأنه أسرع خلفها فعثر بذيله فانقدَّ جَيبُه. {وإن كان قميصُه قُدَّ من دُبر فكذبت وهو من الصادقين}؛ لأنها جذبته إلى نفسها حين فرَّ منها. والجملة الشرطية محكية بالقول، أي: قال: إن كان... إلخ. وتسميتها شهادة؛ لأنها أدت مؤداها. والجمع بين «إنْ» و«كان» على تأويل: إن يعلم أنه كان، ونحوه، ونظيره: قولك: إن أحسنت إليَّ فقد أحسنت إليك من قبل. فإن معناه: إن تمنن علي بإحسانك امنن عليك بإحساني. ومعناه: إن ظهر أنه كان قميصه... الخ. {فلمّا رأى} زوجُها قميصَ يوسف {قُدَّ من دُبرٍ قال إنه} أي: قَوْلُكِ: {ما جزاء...} الخ. {من كَيدِكُنَّ}؛ من حيلتكن. والخطاب لها ولأمثالها ولسائر النساء. {إنَّ كيدَكُنَّ عَظيم}؛ لأن كيد النساء ألطف وأعلق بالقلب، وأشد تاثيراً من النفس والشيطان؛ لأنهن يواجهن به الرجال، والنفس والشيطان يوسوسان مسارقة. ثم التفت العزيزُ إلى يوسف وقال: {يوسفُ} اي: يا يوسف. وحذف النداء؛ إشارة إلى تقريبه وملاطفته، {أعرضْ عن هذا} الأمر واكتمه، ولا تذكره، {واستغفري} يا زليخا {لذنبك إنك كنت من الخاطئين}؛ من القوم المذنبين من خطأ؛ إذا أذنب متعمداً. والتذكير للتغليب. قاله البيضاوي. الإشارة: إذا أراد الله أن يصافي عبده بخصوصية النبوة، أو الولاية، كلأه بعين الرعاية، وجذبه إليه بسابق العناية؛ فإذا امتحنه أيَّده بعصمته، وسابق حفظه ورعايته، ولا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية؛ فالشهوة في البشر أمر طبيعي وبمجاهدتها ظهر شرفه. لكن النفس المطمئنة لا تحتاج في دفعها إلى كبير مجاهدة. والنفس اللوامة لا بد في دفعها من المكابدة والمجاهدة؛ فالهواجم والخواطر ترد على القلوب كلها، لكن النفس المطمئنة لها قوة على دفعها، وقد تتصرف فيها بإمضاء ما قدره الله الواحد القهار عليها. {وكان أمرالله قدراً مقدوراُ}. وذلك كمال في حقهم لا نقصان؛ إذ بذلك تتميز قهرية الربوبية من ضعف العبودية، فما ظهرت كمالات الربوبية إلا بظهور نقائص العبودية. أما الإصرار على العيوب فلا يوجد مع الخصوصية مطلقاً، وأما هجومها على العبد من غير إصرار فيكون مع وجود خصوصية النبوة والولاية، وقد تقع بها الزيادة إن صحبها الانكسار والإنابة. وفي الحكم: «ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول». والله تعالى أعلم. واعلمْ أن ما امتحن به الصديق عليه السلام مع العصمة، قد وقع مثله كثيراً في هذه الأمة المحمدية مع الحفظ والامتناع؛ ذكر الرصاع في كتاب التحفة: أن بعض الطلبة كان ساكناً في مدرسة فاس، فخرجت امرأة ذات يوم إلى الحمام بابنتها، فَتَلَفتْ البنت وبقيت كذلك إلى الليل، فرأت باباً خلفه ضوء، فأتت إليه، فوجدت فيه رجلاً ينظر في كتاب، فقالت: إن لم يكن الخير عند هذا فلا يكون عند أحد. فقرعت الباب، فخرج الرجل فذكرت له قصتها، وأنها خافت على نفسها، فرأى أنه تَعَيَّنَ عليه حفظها، فأدخلها وجعل حصيراً بينه وبينها، وبقي كذلك ينظر في كتابه، فإذا بالشيطان زين له عمله، فحفظه الله ببركة العلم، وفأخذ المصباح، وجعل يحرك أصابعه واحداً بعد واحد حتى أحرقها، والبنت تنظر إليه وتتعجب. ثم خرج ينظر إلى الليل فوجده ما زال، فأحرق أصابع اليد الأخرى، ثم لاح الضوء، فقال: اخرحي، فخرجت إلى دارها سالمة، فذكرت القضية لوالديها، فأتى أبوها إلى مجلس العلم، وذكر القصة للشيخ، فقال للحاضرين: أخرجوا أيديكم وأمنوا على دعائي لهذا الرجل، فأخرجوا أيديهم، وبقي رجل، فعلم الشيخ أنه صاحب القضية، فناداه، فأخبره، فذكر أنه زوجه الأب منها. ه. مختضراً. فمن ترك شيئاً لله عوضه الله مثله، أو أحسن منه. وكذلك فعل الحق تعالى بيوسف عليه السلام قد زوجه زليخاً على ما يأتي إن شاء الله. وحدثني شيخي مولاي العربي رضي الله عنه، أنه وقف على حكايات تناسب هذا؛ وهو أن رجلاً صالحاً تعلق قلبه بابنة الملك، فلما رأى نفسه أنه لا يقدر على تزوجها تطلف حتى دخل عليها في قبتها ليلاً، فوجدها نائمة على فراشها ملقى على وجهها رداؤها، وشمعة تشعل عند رأسها، وأخرى عند رجلها، وطعام موضوع عندها. فكشف عن وجهها فرأى من الجمال ما أبهر عقله؛ فجعل يتردد في نفسه، ويخاصمها على فعل الفاحشة، فبينما هو كذلك إذ أبصر لوحاً فوق رأسها مكتوباً فيه: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2]، فتاب الله تعالى عليه، وزجر نفسه عن هواها، فوضع يده في ذلك الطعام ليأكل منه، وترك فيه؟ أثراً، فلما أفاقت البنت رأت أثر اليد في الطعام، فسألت أهل الدار، فكلهم قالوا: ما دخل عليك أحد منا، فتيقنت أن رجلاً دخل عليها، وكان يخطبها كثيرٌ ممن له الرئاسة والجاه، فخافت على نفسها من أن يطرقها أحد منهم فيغضبها، فقالت لأبيها: لا بد أن تروجني، فقال في نفسه: والله لا أزوجها إلا لرجل صالح، فخرج مختفياً إلى المدرسة، فأتى بعض الناس، فقال: سمعت هنا برجل صالح، فأردت أن أزوره، فأشار إلى ذلك الرجل الذي دخل على بنته، ثم سأل ثانياً، وثالثاً، فلكهم أشار إليه، فأتى إليه فقال له: إن لي بنتاً جميلة خطبها مني كثير من الناس، فأردت أن أزوجكها، فجهزها بما يليق بها، وزوجها إياه. ه. وذكر ابن عرضون: إن رجلاً كان بالقيروان من العلماء الأتقياء، يقال له شقران، وكان جميل الصورة فهوته امرأة، فأرسلت إلى عجوز، وأسرت إليها أمره على أن توصله إليها، فأتت إليه العجوز، وقالت: عندي ابنة مريضة، وأرادت أن توصي، وعسى أن تصل إليها، وتدعو لها، فلبس ثيابه، ومشى معها إلى أن وصلت إلى الدار فأدخلته، فوجد صبية جميلة، فقالت له: هلمّ، فقال: إني أخاف الله رب العالمين. فقالت له العجوز: هيهات شقران، والله لئن لم تفعل لأصيحنَّ، وأقول: إنك دخلت علينا عارضتنا، فقال لها: إن كان ولا بد فدعيني حتى أدخل الحجرة، فقالت له: افعل ما بدا لك، فدخل الحجرة، فقال: اللهم إنها ما هوت مني إلا صورتي فَغَيَّرها، فخرج من الحجرة وقد ظهر عليه الجذام. فلما رأته، قالت: اخرج فحرج سالماً. وهذه الحكاية مشهورة ببلاد القيروان. ه. قلت: وقد نزل بنا في حال شبابنا كثير مما يشبه هذا، فحفظنا الله بمنّه وكرمه وحسن رعايته. فللَّهِ المنة والحمد، لا أحصي ثناء عليه.
{وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} قلت: (نسوة): اسم جمع لامرأة. وتأنيثه غير حقيقي، ولذلك جرد فعله من التاء. و(في المدينة) متعلق بقال، أي: أشعن الخبر في المدينة، أو: صفة لنسوة، فيتعلق بالاستقرار. و(حباً): تمييز. و(حاشَ لله): قال أبو علي الفارسي: هي هنا فعل، والدليل على ذلك من وجهين، أحدهما: أنها دخلت على لام الجر، ولا يدخل حرف على حرف. والآخر: أنها حذف منها الألف، على قراءة الجماعة، والحروف لا يحذف منها شيء، وقرأها أبو عمرو بالألف على الأصل، والفاعل بحاش ضميرُ يوسف، أي: بعد يوسف عن الفاحشة لخوف الله. وقال الزمخشري: حاش، وضع موضع المصدر، كأنه قال: تنزيهاً لله. وحذف منه التنوين؛ مراعاة لأصله من الحرفية. وقال البيضاوي: هو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، فوضع موضع التنزيه. واللام للبيان، كما في قولك: سقيا لك. ه. و(ليكونن): نون التوكيد الخفيفة كتبت بالألف؛ لشبهها بالتنوين. يقول الحق جل جلاله: {وقال نسوة في المدينة}: مصر، وكانوا خمساً: زوجة الحاجب، والساقي، والخباز، والسجان، وصاحب الدواب. قلن: {امرأةُ العزيزُ تُراودُ فتاها}: خادمها {عن نفسه} أي: تطلب مواقعه غلامهِا إياها، {قد شَغَفَها حُبَّاً}؛ قد دخل شغاف قلبها حُبُّه، وهو غلافه، {إنا لنراها في ضلالٍ مبين}؛ في خطأ عن الرشد بيِّن ظاهر. {فلما سمعتْ بمكرهنّ}؛ باغتيابهن. وسماه مكراً؛ لأنهن أخفينَه كما يخفي الماكر مكره. وقيل: كانت اسْتَكتَمَتهن سرها فأفشينه. فلما بلغها إفشاؤه {أرسلتْ إليهن} تدعوهن. قيل: دعت أربعين امرأة فيهن الخمس. {وأعتدتْ}: أعدت {لهن مُتكأ}؛ ما يتكئن عليه من الوسائد ونحوها. وقيل: المتكأ: طعام، فإنهم كانوا يتكئون للطعام عند أكله، وقرئ في الشاذ: «مَتْكاً»، بسكون التاء وتنوين الكاف، وهو الأترج. {وآتتْ كل واحدةٍ منهن سكّيناً} ليقطعن به. وهذا يدل على أن الطعام كان مما يقطع بالسكاكين كالأترج. وقيل: كان لحماً. {قالت اخْرُجْ عليهن}، فأسعفها؛ لأنه كان مملوك زوجها، فخرج عليهن، {فلما رأينه أكْبَرْنَهُ}: عظمن شأنه وجماله الباهر، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رأيتً يُوسفَ لَيلَةَ المعراج كالقَمَر لَيلَةَ البَدْرِ» وقيل: كان يُرى تلألؤ وجهه على الجدران. {وقطّعن أيديَهُنَّ}، جرحنها بالسكين؛ لفرط الدهشة، اشتغلن بالنظر إليه، وبُهتْن من جماله حتى قطعن أيديهن، وهُنَّ لا يشعرن، كما يقطع الطعام. {وقُلْنَ حاشَ لله}؛ تنزيهاً له عن صفات العجز عن أن يخلق مثله. أو تنزيهاً له أن يجعل هذا بشراً. اعتقدوا أن الكمال خصاص بالملائكة، وكونه في البشر في حيز المحال، أو تعجباً من قدرته على خلق مثله. {ما هذا بشراً}؛ لأن هذا الجمال غير معهود للبشر. {إن هذا إلا مَلَكٌ كَريمُ} على الله؛ لأن الجمع بين الجمال الرائق، والكمال الفائق، والعصمة البالغة، من خواص الملائكة. {قالت} لهن: {فذلِكُنَّ الذي لُمتنَّني فيه}؛ توبيخاً لهن على اللوم، أي: فهو ذلك الغلام الكنعاني، الذي لمتنني في الافتتان به قبل أن ترونه. ولو كنتن رَأَيْتُنَّهُ لعذرتُنَّنِي، {ولقد راودتُه عن نفسه فاستعصم}: فامتنع طلباً للعصمة. أقرت لهن حين عرفت أنهن يعذرنها؛ كي يعاونها على إلانة عريكته، {ولئن لم يفعلْ ما آمُرُهُ} به {ليُسَبِّحنَ وليكونا من الصاغرين} الأذلاء، وهو من صِغَر، بالكسر يَصغَر صغاراً. فقلن له: أطع مولاتك. {قال ربّ السجنُ أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه} من فعل الفاحشة؛ بالنظر إلى العاقبة. وإن كان مما تشتهيه النفس. لكن رُبَّ شَهوةَ ساعة أورَثَتْ حُزْناً طويلاً. قيل: إنما ابتلي بالسجن لقوله هذا، وإنما كان اللائق به أن يسأل الله العافية، فالاختيار لنفسه أوقعه في السجن، ولو ترك الاختيار لكان معصوماً من غير امتحان بالسجن، كما كان معصوماً وقت المراودة، {وإلا تَصْرِف عني}: وإن لم تصرف عني {كيدَهُنَّ} من تحبيب ذلك إليَّ، وتحسينه عندي بالتثبيت على العصمة، {أَصْبُ إليهن}؛ أًمِلْ إلى جانبهن بطبعي ومقتضى شهوتي، {وأكن من الجاهلين}؛ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإن الحكيم لا يفعل ما هو قبيح. أو من الذين لا يعملون بما يعلمون، فإنهم جهال، وكلامه هذا: تضرع إلى الله تعالى، واستغاثة به. {فاستجاب له ربه}: أجاب دعاءه الذي تضمنه كلامه، {فصرفَ عنه كيدهنَّ} حيث ثبته على العصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن، وآثرها على اللذة الفانية؛ {إنه هو السميعُ} لدعاء الملتجئين إليه، {العليم} بإخلاصهم أو بما يصلح بهم. الإشارة: الحب إذا كان على ظاهر القلب، ولم يخرق شغافه، كان العبد مع دنياه، وآخرته، بين ذكر، وغفلة. فإذا دخل سويداء القلب، وخرق شغافه نسي العبد دنياه وأخراه، وغاب عن نفسه وهواه، وضل في محبة مولاه. ولذلك قيل لعاشقة يوسف: {إنا لنراها في ضلال مبين} أي: في استغراق في المحبة حتى ضل عنها ما دون محبوبها. ومنه قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى} [الضحى: 7] أي: وجدك ضالاً في محبته، فهداك إلى حضرى مشاهدته ومقام قربه، فكان قاب قوسين أو أدنى. وعلامة ودخول المحبة شغاف القلب أربعة أشياء: الاستيحاش، والإيناس، وذكر الحبيب مع الأنفاس، وحضوره مع الحواضر والوسواس. وأنشدوا: تَاللَّهِ مَا طَلَعت شَمسٌ ولا غربت *** إلاَّ وَذكْرُكَ مَقرُونٌ بِأَنفَاسِي وَلاَ جَلَسْتُ إلى قوْمٍ أُحدّثُهُم *** إلاَّ وأَنتَ حَدِيثِي بَينَ جُلاّسي ولا شربتُ لَذيذ الماء مِنْ ظَمَإِ *** إلا رَأيتُ خَيَالاً مَنكَ في الكاسِ إن كَانَ للنَّاسِ وسوَاسٌ يُوسوِسُهُم *** فَأَنتَ واللَّهِ وَسواسِي وخَنَّاسِي لَولا نَسيمٌ بِذكراكُم أَفيقُ بهِ *** لكُنتُ مُحتَرِقاً من حرِّ أَنفَاسي وقال آخر: خَيَالُك في وَهمِي، وذَكرُكَ في فَهمِي *** ومَثواكَ فِي قَلبِي، فَأَين تَغِيب؟ قوله تعالى: {فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن...} الآية: أدهشتهم طلعة يوسف، وجماله الباهر، وزليخا لما استمرت معه لم تفعل شيئاً من ذلك. كذلك المريد إذا استشرف على أنوارالحضرة وجمالها، أدهشته وحيرته، فلولا التأييد الإلهي ما أطاقها، فإذا صبر على صدماتها، واستمر مع تجليات أنوارها ذهب دهشه. واطمأن قلبه بشهود محبوبه من وراء أردية العز والكبرياء، وهذه هي الطمأنينة الكبرى والسعادة العظمى. وقوله تعالى: {قال رب السجن أحب إليَّ}، هكذا ينبغي للعبد أن يكون؛ يختار ما يبقى على ما يفنى؛ فرب شهوة ساعة أورثت حزناً، ورب صبر ساعة أورثت نعيماً جزيلاً. وبالله التوفيق.
{ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)} قلت: (ليسجننه): مفسر للفاعل، أي: ظهر له سجنه؛ إذ الجملة لا تكون فاعلاً على المشهور، وجوزه بعضهم مستدلاً بالآية. وقيل: محذوف، أي: بدا لهم رأي ليسجننه. وقال الإمام القصار، الفاعل هو القسم المفهوم من اللام الموطئة له، أي: بدا لهم قسمهم ليسجننه. يقول الحق جل جلاله: {ثم بَدَا لهم} أي: ظهر للعزيز وأهله، {من بعد ما رأوا الآيات} الدالة على براءة يوسف؛ كشهادة الصبي، وقَدّ القميص، وقطع الأيدي، واستعصامه منهن، فظهر لهم سجنه. وأقسموا {ليَسجُننَّهُ حتى حين} حتى يظهر ما يكون منه؛ ليظن الناس أنها مُحِقة فيما ادعت عليه. فخدعت زوجها حتى وافقها على سجنه. ورُوي أنه لما أدخل السجن ندَمت زليخاً على سجنه، وعيل صبرها على فراقه، فأرسلت إلى السجان ليطلقه، فأبى، فلبث فيه سبع سنين. {ودخلَ معه السجنَ فتيان} أي: فسجنوه واتفق أنه دخل معه في ذلك اليوم رجلان آخران، من عبيد الملك: ساقيه وخبازه، اتُهِمَا أنهما أرادا أن يَسُمَّاه، {قال أحدهما} وهو الساقي: {إني أراني} في المنام {أعصِرُ خمراً} أي: عنباً. وسماه خمراً: باعتبار ما يؤول إليه. رُوي أنه قال: رأيت كأن الملك دعاني وردني إلى قصره، فبينما أنا أدور في القصر، وإذا بثلاثة عناقيد من العنب، فعصرتها، وحملت ذلك إلى الملك لأسقيه له. {وقال الآخرُ} وهو الخباز: {إني أراني أحمل فوق راسي خبزاً تاكلُ}: تنهش {الطيرُ منه}، قال: رأيت كأن العزيز دعاني، وأخرجني من السجن، ودفع لي طيفورة عليها خبز، فوضعتها على رأسي، والطير تأكل منه. {نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين}؛ من الذين يحسنون تأويل الرؤيا. وإنما قالا له ذلك؛ لأنهما رأياه في السجن يعظ الناس ويعبر رؤياهم، أو من المحسنين إلى أهل السجن، كان عليه السلام، إذا رأى محتاجاً طلب له، وإذا رأى مضيقاً وسع ليه؛ فقالا له: فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه. {قال لا يأتيكما طعامُ تُرزِقَانِه} في النوم، {إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكُما} تأويله في الدنيا. أو: لا يأتيكما طعام ترزقانه في اليقظة؛ لتأكلاه إلا أخبرتكما به، ما هو؟ وما لونه؟ وما صفته؟ وكم هو؟ قبل أن يأتيكما، إخباراً بالغيب، فيأتيهما كذلك؛ معجزة. وصَفَ نفسَه بكثرة العلم والمكاشفة؛ ليكون وسيلة إلى دعائهما إلى التوحيد. ثم قال لهما: {ذلكما مما علمني ربي} بالوحي والإلهام. وليس ذلك من قبيل التكهن أو التنجيم. رُوي أنهما قالا له: من أين لك هذا العلم، وأنت لست بكاهن ولا منجم؟ فقال لهما: {ذلكما مما علمني ربي إني تركتُ مِلّةََ}؛ طريقة {قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون} أي: علمني ذلك لأني تركت ملة أهلِ الكفر، {واتبعتُ ملة آبائي إبراهيمَ وإسحاق ويعقوبَ}، وإنما قال ذلك؛ تمهيداً للدعوة، وإظهاراً أنه من بيت النبوة؛ لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه، والوثوق به. {ماكان لنا}: ما صح لنا معشر الأنبياء {أن نُشرك بالله من شيء} أيّ شرك كان، {ذلك} التوحيد {من فضل الله علينا} بالوحي {وعلى الناس} ببعثنا إليهم، وإرشادنا إياهم وتثبيتهم عليه، {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} هذا الفضل؛ فيُعرضون عنه. أو من فضل الله علينا بالوحي والإلهام، وعلى الناس بنصب الدلائل وإنزال الآيات. ولكن أكثرهم لا ينظرون إليها، ولا يستدلون بها، فيوحدون خالقها، فهم كمن كفر النعمة ولم يشكرها. الإشارة: جرت عادة الحق تعالى في خلقه أنه لا يأتي الامتكان إلا بعد الامتحان، ولا يأتي السلوان إلا بعد الأشجان، ولا يأتي العز إلا بعد الذل، ولا يأتي الوجد إلا بعد الفقد. فبقدر ما يضيق على البشرية تتسع ميادين الروحانية، وبقدر ما تسجن النفس وتحبس عن هواها، تتسع الروح في مشاهدة مولاها. وقوله تعالى: {ودخل معه السجن فتيان}: إشارة إلى أن امتحانه بالسجن كان لتكميل حقيقته وشريعته، فمن رأى أنه يحمل الطعام فإشارة إلى حمل لواء الشريعة، ومن رأى أنه يعصر خمراً فإشارة إلى تحقيق خمرة الحقيقة، فيكون من أهل مقام الإحسان، ولذلك قال: {إنا نراك من المحسنين}، ثم ذكر نتيجة مقام الإحسان هو التوحيد الخاص فقال: {ما كان لنا ان بشرك بالله من شيء}. وذكر أن ذلك ناله من باب الكرم لا من باب العمل، فقال: {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس}. والله تعالى أعلم.
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)} قلت: الإضافة في (صاحبي السجن): على معنى (في)؛ كقولك: يا سَارِقَ الليْلَةَ أَهْل الدَّارِ *** يقول الحق جل جلاله: {يا صاحبَي السجن} أي: ساكنيه، أو يا صاحبي فيه؛ {أأرباب متفرقون}: متعددون، {خيرٌ أم اللهُ الواحدُ} المتوحّد في الألوهية، {القهّار}: الغالب على أمره، لا يقاومه غيره، {ما تعبدون} أنتم ومن على دينكم من أهل مصر، {من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم} أي: ما تعبدون إلا مسميات أسماء من الحجارة، والخشب، سميتموها آلهة من غير حجة تدل على استحقاقها للعبادة. والمعنى: سميتم آلهة ما لا يستحق الألوهية، ثم عبدتموها. {ما أنزل اللهُ بها} أي: بعبادتها {من سلطانٍ}: من حجة ولا برهان. {إن الحُكمُ} في أمر العبادة {إلا لله}؛ لأنه المستحق لها دون غيره، من حيث أنه الواجب لذاته، الموجد للكل، هو المالك لأمره، {أمَر} على لسان أنبيائه {ألا تعبدوا إلا إياه} ولا تعبدوا معه سواه {ذلك الدين القيم} القويم الذي لا عوج فيه، {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} دلائل توحيده، فيتخبطون في جهالتهم. قال البيضاوي: وهذا من التدرج في الدعوة وإلزام الحجة، بَيّن لهم أولاً: رجحان التوحيد على اتخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثم برهن على أن ما يُسمونها آلهة، ويعبدونها لا تستحق الألوهية، ثم دل على ما هو الحق القويم، والدين المستقيم، الذي لا يقتضي العقل غيره، ولا يرتضي العلم دونه. ه. الإشارة: كل من لم يجمع قلبه على مولاه، واتبع حظوظه وهواه، فله أرباب متفرقون بقدر ما يميل إليه قلبُه من هذا العرض الفاني. قال ابن عطية: وقد ابتلي بأرباب متفرقين من يخدم أبناء الدنيا، ويؤملهم. ه. وفي الحديث: «خَابَ مَن رَجَى غير الله وضَلَّ سَعيُه، وطَابَ وقَتُ مَن وَثَقَ بِاللِّهِ» ولله در القائل: حَرامٌ على مَنْ وَحّدَ الله رَبّهُ *** وَأَفرَدَهُ أن يَجتَدي أَحَدَاً رَفدا فَيَا صَاحِبي قِف بي عَلى الحقِّ وقفَةً *** مُوتُ بَها وَجداً وأَحيَا بِها وَجداً وَخَلِّ مُلوك الأرضِ تَجهَد جُهدَهَا *** فّذا المُلكُ مُلكٌ لا يُباع ولا يُهدَى
{يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)} قلت: (منهما): يتعلق بظن، والظن يحتمل أن يكون بمعنى اليقين؛ لأن قوله: (قضي الأمر) يقتضي ذلك، أو يبقى على بابه. يقول الحق جل جلاله: قال يوسف: {يا صاحِبَي السجن} المستفتيان عن الرؤيا، {أما أحدُكُما} وهو الساقي، {فيسْقي ربه خمراً} كما كان يسقيه قبلُ، ويعود إلى ما كان عليه، {وأما الآخرُ فيُصلبُ فتأكلُ الطيرمن رأسه}، فقالا: كَذَبْنا ما رأينا شيئاً، فقال: {قُضِيَ الأمرُ الذي فيه تستفتيان}، سبق به القضاءُ في الأزل، وهو ما يؤول إليه أمركما، ولذلك وحده ولم يقل: قضي أمراكما. رُوي أنه لما دعاهما إلى التوحيد أسلم الساقي وأبى الخباز، فأخرج بعد ثلاث وصُلب. {وقال للذي ظنَّ أنه ناج منهما} يوسف، أي: تيقن، أو غلب على ظنه أنه ناجٍ منهما، إما عن وحي، على الأول، أو باجتهاد بسبب الرؤيا: {اذكُرني عند ربك}؛ عند سيدك، وهو المَلِك، وقل له: غلامٌ سُجنَ ظُلماً، لعله يُخلصني. قال ابن عطية: يحتمل أن يذكره بعلمه ومكانته، ويحتمل أن يذكره بمظلمته، وما امتحن به بغير حق. أو يذكره بهما. ه. وقال الورتجبي: يحتمل أن قوله: {اذكرني عند ربك}: عَرَّف له طريقتي مع الله حتى يعرفني أني رسول الله، ويطيعني في طاعة الله، وينجو بذلك من عذابه، ويصل إلى ثوابه، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وليوحد الله تعالى، ويتخلص من كيد الشيطان، وما معه من الإنسان. ه. {فأنسَاهُ الشيطانُ ذكرَ ربه} أي: فأنسى الساقي أن يذكر يوسف لربه. أو أنسي يوسفَ ذكرَ الله حتى استغاث بغير، فأدبه، {فلبثَ في السجن}، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «رَحِمَ الله أخِي يُوسُف، لَوْ لَمْ يَقُل: اذْكرْنِي عند رَبِّك، لَمَا لَبِثَ في السِّجنِ سَبْعاً بَعدَ الخَمسِ». روي أن جبريل عليه السلام أتاه بعد المقالة، فقال له: مَن أخرجك من الجُبِّ، وخلِّصك من القتل، وعَصَمَكَ من الفاحشة؟ فقال: الله. فقال: كيف تعتصم بغيره، وتثق بالمخلوق، وترفع قصتك إليه، وتترك ربك؟! قال: يا جبريل؛ كلمات جرت على لساني، وأنا تائب لا أعود لمثلها. ه. والاستعانة بالمخلوق، وإن كانت جائزة شرعاً، لكنها لا تليق بمقام الأقوياء. {فلبث في السجن بضْعَ سنين} البضع: من الثلاث إلى التسع. ؟ رُوي أن يوسف عليه السلام سجن خمس سنين أولاً، ثم سجن بعد المقالة سبع سنين. الإشارة: النسيان والغفلة التي لا تثبت في القلب، والخواطر التي ترد وتذهب من أوصف البشرية التي لا تنافي الخصوصية، إذ لا انفكاك للعبد عنها. قال تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف: 201] فالطيف لا ينجو منه أحد؛ لأنه من جملة أوصاف العبودية التي بها تعرف كمالات الربوبية. وقد قال تعالى في حق سيد العارفين: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله} [الأعراف: 200]؛ فالعصمة التي تجب للأنبياء إنما هي مما يوجب نقصاً أن غضاً من مرتبتهم. وهذه الأمور إنما توجب كمالاً؛ لأنها بها يتحقق كمال العبودية التي هي شرف العبد. فافهم وسلم، ولا تنتقد، فإن هذه الأمور لا يفهمها إلا العارفون بالله، دون غيرهم من أهل العلم الظاهر. وقال الورتجبي: إن يوسف عليه السلام لم يعلم وقت إيمان الملك، ولم يأت وقت دخوله في الإسلام، فأنساه الشيطان ذكر ربه، في سابق حكمه، على تقدير وقت إيمان الملك، فلبث في السجن إلى وقت إيمان الملك، فنسيان يوسف: احتجابه عن النظر إلى قدره السابق. ه.
{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)} قلت: يقال: عَبرت الرؤيا بالتخفيف عبارة، وهو أفصح من عبَّرت بالتشديد تعبيراً. واللام للبيان، أو لتقوية العامل؛ لضعف الفعل بتأخيره عن مفعوله. والأصل: تعبرون الرؤيا. وأصل (ادكر) اذتكر، فقلبت التاء دالاً مهملة، وأدغمت المعجمة فيها فبقيت دالاً. وإليه أشار ابن مالك بقوله: في ادَّانَ وازْدَادْ وادَّكِرْ دالاً بَقِي *** و(دأباً) حال، أي: دائبين، أو مصدر بإضمار فعله، أي: تدأبون دأباً. وفيه لغتان: السكون، والفتح. يقول الحق جل جلاله: {وقال الملِكُ}؛ وهو ملك مصر الذي كان العزيز وزيراً له، واسمه: «ريان بن الوليد». وقيل: «مصعب بن الريان»، وكان من الفراعنة رُوي أن يوسف عليه السلام لما لبث في السجن سْبع سنين سجد، وقال: إلهي، خلصني من السجن، فكلما دعا يوسف أمنت الملائكة، فاتفق في الليلة التي دعا فيها يوسف أن رأى الملكُ تلك الرؤيا التي ذكرها بقوله: {إني أرى} في المنام {سبعَ بقراتٍ سمَانٍ} خرجن من نهر يابس، وسبع بقرات عجاف مهازيل خرجن بأثرهن فابتلعت المهازيلُ السمان، {وسبعَ سنبلات خُضْرٍ} قد انعقد حَبُّها، {و} سبعاً، {أخر يابسات} قد أدركت، فالْتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها. فلما رأى ذلك انتبه مرعوباً، وجمع ندماءه، ودعا المفسرين، فقال: {يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي}؛ اعبروها، {إن كنتم للرؤيا تعْبُرون} أي: إن كنتم عالمين بعبارة الرؤيا. {قالوا}: هذه {أضغاثُ أحلام}؛ تخاليطها، جمع ضَغث، وأصله: ما جمع من أخلاط النبات وحُزم، فاستعير للرؤيا الكاذبة. وإنما جمعوا {أحلام}؛ للمبالغة في وصف الحلم بالكذب. ثم قالوا: {ومن نحن بتأويل الأحلام بعالمين}، والمعنى: ليس لها تأويل عندنا؛ لأنها أكاذيب الشيطان، وإنما التأويل للمنامات الصادقة. {وقال الذي نجا منهما} من صاحبي السجن، وهو الساقي، وكان حاضراً، {وادَّكرَ بعد أُمة} أي: وتذكر بعد جماعة من السنين، وهي سبع سنين، {أنا أُنبئكم بتأويله فأرسلون} إلى من عنده علمها، أو إلى السجن. رُوي أنه لما سمع مقالة الملك بكى، فقال الملك: ما لك تبكي؟ قال: أيها الملك؛ إن رؤياك هذه لا يعبرها إلا الغلام العبراني الذي في السجن، فتغير وجه الملك، وقال: إني نسيته، وما ذكرته منذ سبع سنين، ما خطر لي ببال. فقال الساقي: وأنا مثلك، فقال لهم الملك: وما يدريك أنه يعبر الرؤيا؟ فحدثه بأمره، وأمر الساقي فقال له: امض إليه وسله، فقال: إني والله أستحي منه؛ لأنه أوصاني ونسيت، فقال له: لا تستح منه؛ لأنه يرى الخير والشر من مولاه فلا يلومك. فأتاه. فقال: {يوسفُ} أي: يا يوسف، {أيها الصّدّيق}: المبالغ في الصدق. وإنما وصفه بالصِّدِّيقية لما جرب من أحواله، وما رأى من مناقبه، مع ما سمع من تعبير رؤياه ورؤيا صاحبه، {افْتِنَا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} أي: أفتني في رؤيا ذلك واعبرها لي، {لعلي أرجعُ إلى الناس} أي: أعودُ إلى الملك ومن عنده، أو إلى أهل البلد؛ إذ قيل: إن السجن كان خارجاً البلد. {لعلهم يعلمون} تأويلها. أو يعلمون فضلك ومكانتك. وإنما لم يجزم بعلمهم؛ لأنه ربما اختُرِم دونه، أو لعلهم لا يفهمون ما يقول لهم. {قال} في تعبيرها: {تزرعون سبعَ سنينَ دأباً} أي: على عادتكم المستمرة من الخصب والرخاء. {فما حصدتُّم فَذَرُوهُ}: اتركوه {في سُنْبُله}؛ لئلا تأكله السوس، وهي نصيحة خارجة عن عبارة الرؤيا، {إلا قليلاً مما تأكلون} في تلك السنين، أي: لا تدرسوا منه إلا ما تحتاجون إلى أكله خاصة، وذلك أن أرض مصر لا يبقى فيها الطعام عامين. فعلمهم حيلة يبقى بها السنين المخصبة إلى السنين المجدبة، وهو أن يتركوه في سنبله غير مُدرَس؛ فإن الحبة إذا بقيت في غشائها حُفظت بإذن الله. {ثم يأتي من بعد ذلك سبع شِدَادٌ} أي: ذات شدة وجوع {يأكُلْنَ ما قدمتم لهن} أي: يأكل أهلهن ما ادخرتم لأجلهن. أسند الأكل إلى السنين مجازاً؛ تَطْبِيقاً بين المعبر والمعبر به، {إلا قليلاً مما تحصنون} أي: مما تخزنون وتخبئُون للزراعة والبذر. {ثم يأتي من بعد ذلك عام يُغاث الناس} أي: يغيثهم الله بالفرج من القحط، أو يغاث بالمطر، لكن مصر إنما تسقى من النيل. {وفيه} أيضاً {يَعْصِرُون} العنب والزيتون؛ لكثرة الثمار. أو يعصرون الضروع لحلب اللبن؛ لأجل الخصب. وهذه بشارة بشرهم بها بعد أن أوَّل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخصبة. والعجاف واليابسات بسنين مجدبة، وابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة. ولعله علم ما في السنة الثامنة من الخصب والرخاء بالوحي، أو بأن انتهاء الجدب لا يكون إلا بالخصب، وبأن سنة الله الجاربة أن يوسع على عباده بعد ما ضَيّق علهيم، لقوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5]. والله تعالى أعلم. الإشارة: الروح في أصل نشأتها علامة داركَةٌ، تكاشف بالأمور قبل وقوعها، إذا غابت عن إحساسها الذي حجبها عن ذلك العلم، ولو كانت من كافر إذا غاب عن حسها بنوم، أو اصطلام، عقل. فمن طهرها من دنس الشرك بالتوحيد، وغيبها عن شواغل الحس بالتفرغ والتجريد، رجعت إلى أصلها، وفاضت عليها العلوم التي كانت لها قبل التركيب في القالب الحسي، علماً وكشفاً. ولا شيء أنفع لها في الرجوع من السهر والجوع. وفي أسرار كثيرة حسية، ومعنوية، وبسببه جمع الله شمل يوسف بأبيه وإخوته. وبه أيضاً ملَّك اللَّهُ يوسف ونصره ومكنه في الأرض حتى ملك مصر وأهلها. ولذلك قال نبينا عليه الصلاة والسلام-: «اللهم إعِنِّي عَلَيهم أي على قريش بِسبعٍ كَسَبع يُوسفَ» وذكر الغزالي في الإحياء، في أسرار الجوع، أربعين خصلة. وفي بعض الأثر: (أن الله تعالى عذب النفس بأنواع من العذاب، ومع كل عذاب يقول لها: من أنا؟ فتقول هي: ومن أنا؟ حتى عذبها بالجوع، فقالت: أنت ربي سبحانك الواحد القهار). والممدوح منه؛ هو المتوسط دون إفراط ولا تفريط، كما قال البوصيري. وَاخْشَ الدَّسَائِسَ مِنْ جُوع ومِنْ شِبعٍ *** فَرُبَّ مَخْمَصَةٍ شَرٌّ مِنَ التُّخَمِ وبالله التوفيق.
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} يقول الحق جل جلاله: ولما جاء الرسول من عند يوسف بالتعبير، وسمعه الملك، تعجب منه، واستعظم علمه وعقله، وقال: لا ينبغي لمثل هذا أن يُسجن، {ائتوني به فلما جاءه الرسولُ} ليُخرجه، {قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أيديهن}: ما شأنهن حتى قطعن أيديهن، وهل رأين مني ميلاُ إليهن. وإنما تأنى في الخروج، وقدَّم سؤال النسوة، والفحص عن حاله؛ ليظهر براءة ساحته، وليعلم الملك أنه سُجن ظلماً، فلا يقدر الحاسد أن يتوسل به إلى تقبيح أمره. وفيه دليل على أنه ينبغي أن يتقي مواضع التهم، ويجتهد، في نفيها، وفي الحديث: «مَنْ كََان يُؤمِنُ بِالله ِواليومِ الآخِرِفلا يَقِفَنَّ مَواقِفَ التُّهَم». وفيه دليل على حلمه وصبره، وعدم اهتباله بضيق السجن؛ إذ لم يُجب الداعي ساعة دُعي بعد طول سجنه. ومن هذا المعنى تواضع معه نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال «لَو لَبِثت في السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» ولم يذكر امرأة العزيز كرماً، ومراعاةً للأدب، ورعياً لذمام زوجها، وستراً لها. بل ذكر النسوة اللاتي قطعن أيديهن. ثم قال: {إن ربي بكيدهن عليم} حين قلن لِي: أطع مولاتك. وفي عبارته تعظيم لكيدهن، والاسشهاد عليه بعلم الله، وبراءته مما قذف به، والوعيد لهن على كيدهن. ثم جمع الملك النسوة، وكُن ستاً أو سبعاً، مات منهن ثلاث ويوسف في السجن، وبقي أربع ومعهن امرأة العزيز، و{قال} لهن: {ما خطبكُنَّ}؛ ما شأنكن {إذ راودتُنَّ} أي: حين راودتن {يوسفَ عن نفسه}، وأسند المراودة إلى جميعهن؛ لأن المَلِك لم يتحقق أن امرأة العزيز هي التي راودته وحدها. {قلنَ حاشَ لله}؛ تنزيهاً لله أن يعجز عن خلق عفيف مثله، أو تنزيهاً ليوسف أن يعصيه؛ لأجل خوف الله. وهذا تبرئة ليوسف ولهن، أو لهن فقط. وتكون تبرئة يوسف في قولهن: {ما علمنا عليه من سُوءٍ}: من ذنب. {قالت امرأةُ العزيز الآن حَصْحَصَ الحق}: أي: تبين ووضح، أو ثبت واستقر، {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} في قوله: {راودتني عن نفسي} فلما رجع إليه الرسول، وذكر ما قالته النسوة، وما أقرت به امرأة العزيز، قال: {ذلك ليعلم أني لم أخُنْهُ بالغيب} أي: فعلت ذلك التثبت والتأني في الخروج ليعلم العزيز أني لم أخنه في زوجته {بالغيب} في حال غيبته، أو بظهر الغيب وراء الأستار والأبواب المغلقة، بل تعففت عنها. {وأن الله لا يهدي كيدَ الخائنين} أي: لا ينفذه ولا يسدده. أو لا يهدي الخائنين ليكدهم. وأوقع الفعل على الكيد؛ مبالغةً. وفيه تعريض بامرأة العزيز في خيانتها زوجها، وتوكيد لأمانته. رُوي عن ابن عباس أنه لما قال: {لم أخُنْهُ بالغيب} قال جبريل عليه السلام: ولا حين هممت. فقال: {وما أُبرئُ نفسي} لا أنزهها في عموم الأحوال، أو لا أزكيها على الدوام. قاله تواضعاً وإظهاراً للعبودية؛ وتنبيهاً على أنه لم يرد بذلك تزكية نفسه، ولا العجب بحاله، بل إظهاراً لنعمة العصمة والتوفيق. ثم قال: {إنَّ النفسَ لأمارةٌ بالسوء} بحيث إنها مائلة بالطبع إلى الشهوات، فتهُم بها، وتستعمل القوى والجوارح في نيلها في كل الأوقات، {إلا ما رحم ربي}: إلا وقت رحمة ربي بالعصمة والحفظ، أو: إلا ما رحم الله من النفوس فيعصمها من ذلك. وقيل: الاستثناء منقطع، أي: لكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة، {إن ربي غفور رحيم}، يغفرما همت به النفوس، ويرحم من يشاء بالعصمة. أو يغفر للمستغفر ذنبه المعترف على نفسه، ويرحمه بالتقريب بعد تعرضه للإبعاد. وقيل: إن قوله تعالى: {ذلك ليعلم أني لم أخُنْه بالغيب} إلى هنا، هو من كلام زليخا. والأول أرجح. {وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي} أي: أجعله خاصتي وخلاصتي، أو أجعله خالصاً لنفسي. قال أولاً: {ائتوني به} فقط، فلما تبين له حاله وظهر كماله، قال: {ائتوني به أستخلصه لنفسي} رُوي أنه لما أراد ان يخرجه أرسل إليه بخلعة يأني فيها، وكان بين السجن والبلد: أربعة فراسخ، فقال يوسمف: لا أخرج من السجن حتى لا يبقى فيه أحد، فأمر الملك بخروج جميع مَن فيه. فلما خرج من السجن اغتسل وتنظف، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك، قال: اللهم إني أسألك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره. ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية، فقال: ما هذا اللسان؟. فقال: لسان آبائي. وكان الملك يعرف سبعين لساناً، فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه، فقال: أحب أن أسمع رؤياي، فحكاها، ونعت له البقرات والسنابل وأماكنها فأجلسه على السرير، وفوض إليه أمره. وهذا معنى قوله تعالى: {فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين} أي: فلما أتوا به وكلمه وشاهد منه الرشد والدعاء، {قال إنك اليوم} عندنا {مكينٌ} أي: في مكانه ومنزلة، {أمين}: مؤتمن على كل شيء، ثم فوض إليه أمر المملكة. وقيل: توفي قطفير أي: العزيز فنَصَّبه منصبه، وزوجه من زليخا بعد أن شاخت، وافتقرت، فدعا الله تعالى فرد عليها جمالها وشبابها، فوجدها عذراء وولد منها إفراثيم وميشا. ثم قال له الملك: ما ترى نصنع في هذه السنين المخصبة؟. {قال اجعلني على خزائنِ الأرض} أي: أرض مصر ألى أمرها. والخزائن: كل ما يخزن فيه طعام ومال وغيرهما. {إني حفيظٌ} لها ممن لا يستحقها، {عليم} بوجوه التصرف فيها. قال البيضاوي: ولعله عليه السلام لما رأى أنه يستعمله في أمره لا محالة، آثر ما تعم فوائده وعوائده، وفيه دليل على جواز طلب التولية، وإظهار أنه مستعد لها، والتولي من يد الكافر، إذا علم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسة الخلق إلا بالاستظهار به. وعن مجاهد: ان الملك أسلم على يديه. ه. قلت: وقد تقدم عن الورتجبي ما يدل عليه. وقال ابن عطية: وطلب يوسف للعمل إنما هو حسبة منه عليه السلام؛ لرغبته أن يقع العدل، ونحو هذا هو دخول أبي بكر رضي الله عنه في الخلافة، مع نهيه المستشيرَ له من الأنصار عن أن يتأمَّر على اثنين. فجائز للفاضل أن يعمل ويطلب العمل إذا رأى ألا عوض منه. ه. وفي «الاكتفاء في أخبار الخلفاء»: أن عمر أراد أبا هريرة على العمل، فامتنع، فقال له: أوليس يوسف خيراً منك، وقد طلب العمل؟ فقال: يوسف نبي ابن نبي، وأنا ابن أميمَةَ، فأنا أخاف ثلاثاً واثنين: أن أقول بغير علم، وأقضي بغير عدل، وأن يضرب ظهري، ويشتم عرضي، ويؤخذ مالي. ه. {وكذلك مَكَّنَا ليوسف} أي: ومثل ذلك الصنع الجميل الذي صنعنا بيوسف مكناه {في الأرض}؛ أرض مصر، {يتبوأ منها حيثُ يشاءُ}: ينزل من بلادها حيث يريد هو، أو ينزل منها حيث نريد، {نُصيب برحمتنا من نشاء} في الدنيا والآخرة، {ولا نُضيع أجر المحسنين}، بل نوفي أجورهم عاجلاً وآجلاً. ويوسف أفضلهم في زمانه، فمكَّنه الله من أرض مصر، حتى ملكها بأجمعها؛ وذلك أنه لما فوض إليه الملك اجتهد في جمع الطعام وتكثير الزراعات، حتى دخلت السنون المجدبة، وعم القحط مصر والشام، ونواحيهما، وتوجه الناس إليه، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم والدنانير حتى لم يبق لهم منها شيء، ثم في السنة الثانية بالحلي والحلل، ثم في السنة الثالثة بأمتعة البيوت، هم في الرابعة بالدواب، ثم في الخامسة بالرباع والعقار، ثم في السادسة بأولادهم، ثم في السابعة برقابهم حتى استرقهم جيمعاً، ثم عرض الأمر على الملك، فقال: الرأي رأيك. فأعتقهم ورد إليهم أموالهم. قال تعالى: {ولأجرُ الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون} الشرك والفواحش، فهو أحق بالرغبة وأولى بالطلبة. وقال ابن جزي في قوله: {نُصيب برحمتنا من نشاء}: الرحمة هنا المراد بها الدنيا، وكذلك الأجر في قوله: {ولا نُضيع أجر المحسنين}؛ بدليل قوله بعد ذلك: {ولأجرُ الآخرة خير} فأخبر تعالى أن رحمته في الدنيا يصيب بها من يشاء من مؤمن وكافر، وطائع وعاص، وأن المحسنين لا بد من أجرهم في الدنيا. فالأول في المشيئة، والثاني واقع لا محالة. ثم أخبر أن أجر الآخرة خير من ذلك كله {للذين آمنوا وكانوا يتقون}، وفيه إشارة إلى أن يوسف عليه السلام جمع الله له بين الدنيا والآخرة. ه. الإشارة: في الآية ثلاث فوائد: الأولى: مدح التأني في الأمور، ولو كانت جلالية؛ لأنه يدل على كمال العقل والرزانة، وطمأنينة القلب. وذم العجلة؛ لأنها من خفة العقل والطيش، وعدم الصبر والاحتمال. يؤخذ ذلك من تأني يوسف عليه السلام في السجن بعد طول مدته. وفي الحديث «التَأَنِّي مِن اللَّهِ، والعَجَلَةُ من الشَّيطَانِ». الثانية: عدم تزكية النفس، ودوام اتهامها، ولو بلغت من التصفية ما بلغت. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70]، وقال بعض الصوفية: وكيف يصلح لعاقل أن يزكي نفسه والكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يقول: {إنا النفس لأمارة بالسوء}، والنفوس ثلاثة: أمارة، ولوامة، ومطمئنة. وزاد بعضهم: اللهامة من قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8].. الثالثة: تسلية أهل البلاء، إذا صحبهم الإحسان والتقوى، وبشارتهم بالعز بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والنصر والتمكين في الأرض بعد الاستضعاف والهوان، يؤخذ ذلك من قوله: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين}. وفي ذلك يقول الشاعر: وكُلُّ عَبْدٍ أَرَادَ الله عِزَّتَه *** فَهُو َالعَزِيزُ، وعزُّ اللهِ يغْشَاه قََدْ لاَحَ عِزُّ لَه في الأرْضِ مُنْتَشِرٌ *** فَهُو الحَبِيبُ لِمَنْ نَادَاهُ لبّاهُ يا حُسْنَهُ ومَتى قَد طَالَ مَطْلَبُه *** تَاجُ البرية والرحمنُ صَفَّاهُ
{وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)} يقول الحق جل جلاله: {وجاء إخوة يوسف} إلى مصر للميرة، {فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون}، إنما أنكروه؛ لبعد العهد ولتغير سنه، ولأنهم فارقوه في سن الحداثة، ولتوهمهم أنه هللك، أو لقلة تأملهم في حاله؛ لشدة هيبتهم إياه، أو لأنه كان مُلثّماً. رُوي أنهم دخلوا عليه في قصر مُلكه وهو في هيئة عظيمة من الملك، والتاج على رأسه، فقال لهم بعد أن عرفهم: من أنتم، وما أمركم، وما جاء بك إلى بلادي، ولعلكم عيون؟ فقالوا: معاذ الله، نحن بنو أب واحد، وهو شيخ صدِّيق، نبي من الأنبياء، اسمه يعقوب. قال: كم أنتم. قالوا: كنا اثني عشر، فذهب أحدنا إلى البرية، فهلك. فقال: فكم أنتم ها هنا؟ قالوا: عشرة. قال: فأين الحادي عشر؟ قالوا: عند أبيه يتسلّى به عن الهالك، قال: فمن يشهد لكم؟ قالوا: لا يعرفنا ها هنا من يشهد لنا. قال: فَدَعوا عندي بعضكم رهينة، وائتوني بأخ لكم من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا؛ فأصابت شمعون. وهذا معنى قوله: {ولما جَهَّزَهُم بجَهَازهم} أعطاهم ما اشتروا منه الطعام، وأوقر ركابهم؛ {قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم} وهو: بنيامين بكسر الباء على وزن إسرائيل، قاله في القاموس. وقيل: كان يوسف عليه السلام يعطي لكل نفس حملاً، ولا يزيد عليه، فسألوه حِملاً زائداً لأخيهم من أبيهم؛ فأعطاهم، وشرط عليهم أن يأتوا به؛ ليعلم صدقهم. ثم قال لهم: {ألا ترَوْنَ أني أُوفي الكيلَ وأنا خيرُ المنزِلين} للأضيافِ. قال لهم ذلك؛ ترغيباً في رجوعهم، وقد كان أحسن ضيافتهم غاية الإحسان. رُوي أنه عليه السلام نادى صاحب المائدة، وقال له: لا تنزل هؤلاء بدار الغرباء، ولا بدار الأضياف، ولكن أدخلهم داري، وانصب لهم مائدة كما تنصبها لي، واحفظهم وأكرمهم. فسأله عنهم، فلم يجب، فبسط لهم الفرش والوسائد، فلما جن الليل أمر أن توضع بين أيديهم الموائد، والشماع، والمجامر، وهم ينظرون من كوة إلى دار الأضياف، وقد بلغ بهم الجهد، فكانوا يعطونهم قرصة شعير لكل أحد من الغرباء، وهم يرون ما بين أيديهم من الإكرام والطعام، وقد بلغ الحمل من الطعام ألفاً ومائتي دينار. فقال بعضهم لبعض: إن هذا المَلك أكرمنا بكرامة ما أكرم بها أحداً من الغرباء! فقال شمعون: لعل الملك سمع بذكر آبائنا فأكرمنا لأجلهم. وقال آخر: لعله أكرم فقرنا وفاقتنا. ويوسف عليه السلام ينظر إليهم من كوة ويسمع كلامهم، ويبكي. ثم قال لولده ميشا: اشدد وسطك بالمنطقة واخدم هؤلاء القوم، فقال له: من هم با أبت؟ فقال: هم أعمامك يا بني، قال: يا أبت هؤلاء الذين باعوك؟ قال: نعم، باعوني حتى صرت مَلك مصر، ما تقول يا بني، أحسَنُوا أو أساؤوا؟ قال: بل أحسَنوا فما أقول لهم؟ قال: لا تكلمهم، ولا تُفش لهم سراً حتى يأذن الله بذلك، فبقوا في الضيافة ثلاثاً أو أكثر، ثم جهزهم، وأرسلهم، وشرط عليم أن يأتوا بأخيه بنيامين. قال لهم: {فإن لم تأتوني به فلا كيلَ لكم عندي ولا تقربون}. أي: لا تدخلوا دياري ولا تقربوا ساحتي، {قالوا سَنُراود عنه أباه} أي: سنجهد في طلبه منه، {وإنا لفاعلون} ذلك، لا نتوانى فيه، {وقال لفتيته}؛ لغلمانه الكيالين، وقرأ الأخوان وحفص: {لفتيانه}، بجمع الكثرة: {اجعلوابضاعتَهم} أي: ثمنهم الذي اشتروا به، {في رحالهم}؛ في أوعيتهم. فامر أن يجعل بضاعة كل واحد في رحله، وكانت نعالاً وأدَمَا. وإنما فعل ذلك يوسف تكرماً وتفضلاً عليهم، وترفقاً أن يأخذ ثمن الطعام منهم، وخوفاً من أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به إليه. {لعلهم يعرفُونها} أي: لعلهم يعرفون هذه اليد والكرامة في رد البضاعة إليهم، فيرجعون إلينا. فليس الضمير للبضاعة؛ لأن ميز البضاعة لا يعبر عنه بلعل، وإنما المعنى: لعلهم يعرفون لها يداً وتكرمة ويرون حقها {إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يَرْجِعُون}، أي: لعل معرفتهم بهذه الكرامة تدعوهم إلى الرجوع. وقصد بذلك استمالتهم والإحسان إليهم. أو: لعلهم يعرفون البضاعة، ولا يستحلون متاعنا فيرجعون به إلينا، وضعف هذا ابن عطية: فقال: وقيل: قصد يوسف برد البضاعة أن يتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن فيرجعوا لدفع الثمن. وهذا ضعيف من وجوه. ثم قال: ولسرورهم بالضاعة، وقولهم: {هذه بضاعتُنا رُدَّتْ إلينا}، يكشف أن يوسف لم يقصد هذا، وإنما قصد أن يستميلهم ويصلهم كما تقدم. الإشارة: قوله: {فعرفهم وهم له منكرون}، كذلك أهل الخصوصية من أهل مقام الإحسان، يعرفون مقامات أهل الإيمان ومراتبهم، وأهل مقام الإيمان ينكرونهم ولا يعرفون مقامهم، كما قال القائل: تَرَكْنَا البُحُورَ الزَّجِرَاتِ وَرَاءنَا *** فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي النَّاسُ أين تَوَجَّهْنَا فكلما علا بالولي المقام خفي عن الأنام، ولا يعرف مراتب الرجال إلا من دخل معهم، وشرب مشربهم، وإلا فهو جاهل بهم. وقوله تعالى: {فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي}: كذلك الحق جل جلاله يقول لعبده: ائتني بقلبك، فإن لم تأتني به فلا أقبل طاعتك، ولا تقرب إلى حضرتي. قال النبي صلى الله عليه السلام: «إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلى صَُوَرِكم ولاَ إلى أَعْمَالِكُمْ، وَإَنَّما يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُم ونيَّاتِكُم» أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وقوله تعالى: {سنراود عنه أباه}: كذلك ينبغي للعبد أن يحتال على قلبه حتى يرده إلى ربه؛ وذلك بقطع العلائق، والفرار من الشواغل والعوائق، حتى تشرق عليه أنوار الحقائق. وقوله تعالى: {اجعلوا بضاعتَهم في رِحَالِهم}... الآية. كذلك ينبغي للواعظ والمذكر أن يبشر الناس، وينمي بضاعتهم، وهو: الإيمان والمحبة لله ومعرفته، ويجعلها في قلوبهم بحسن وعظه، ونور حاله، فيكون ممن ينهض الناس حاله، ويدل على الله مقاله. ولا يقنط الناس ويفلسهم من الإيمان والمحبة، بل ينبغي أن يجمع بين التبشير والتحذير، والترغيب والترهيب، ويغلب جانب الترغيب بذكر إحسان الله وآلائه.. لعلهم يعرفون ذلك إذا انقلبوا إلى أسبابهم، لعلهم يرجعون إلى الله في غالب أحوالهم. وبالله التوفيق.
{فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)} قلت: (نكتل): أصله: نَكْتَيِِل، بوزن نفتعل، من الكيل، قلبت الياء ألفاً؛ لتحرك ما قبلها، ثم حذفت للساكنين. و(حفظاً): تمييز، ومن قرأ بالألف فحال، كقوله: لله دره فارساً. أو تمييز، وهو أرجح. و(ما نبغي): استفهامية، أو نافية. و(نمير أهلنا): عطف على محذوف، أي: ردت فنستظهر بها ونمير... الخ. قال في القاموس: مار يَمير؛ بالكسر: جَلَب الطعام. ه. و(إلا أن يحاط): استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي: لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم. يقول الحق جل جلاله: {فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا مُنع منا الكيلُ} أي: حكم بمنعه بعد هذا، إن لم نذهب بأخينا بنيامين، {فأرْسِل معنا أخانا نكتلْ} أي: نرفع المانع من الكيل، ونكتل ما نحتاج إليه. وقرأ الأخوان بالياء: {يكتل} لنفسه، فنضم اكتياله إلى اكتيالنا، {وإنا له لحافضون} من أن يناله مكروه. {قال هل آمنكم عليه} أي: ما آمَنكم عليه {إلا كما أمنْتُكُم على أخيه من قبلُ}، وقد قلتم في يوسف: {وإنا له لحافظون}، {فاللَّهُ خيرٌ حافظاً}؛ فأثق به، وأفوض أمري أليه، {وهو أرحمُ الراحمين}، فأرجو أن يرحمني بحفظه، ولا يجمع عليّ مصيبتين. {ولما فَتحوا متاعَهُم}: أوعيتهم، {وجدوا بضاعَتَهم رُدت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي} أي: ما نطلب، فهل من مزيد على هذه الكرامة، أكرمنا وأحسن مثوانا، وباع منا، ورد علينا متاعنا، ولا نطلب وراء ذلك إحساناً. أو: ما نتعدى في القول، ولا نزيد على ما حكينا لك من إحسانه. أو: ما نبغي على أخينا، ولا نكذب على الملك. {هذه بضاعتنا رُدَّتْ إلينا}، وهو توضيح وبيان لقولهم: {ما نبغي}، أي: ردت إلينا فنتقوى بها. {ونمير أهلَنا}: نسوق لهم الميرة وهو: الطعام حين نرجع إلى الملك، {ونحفظُ أخانا} من المكاره في ذهابنا وإيابنا.. {ونزدادُ كيلَ بعيرٍ} بزيادة حِمل بعير أخينا، إذ كان يوسف عليه السلام لا يعطي إلا كيل بعير لكل واحد. {ذلك كيلٌ يسير} أي: ذلك الطعام الذي أتيناه به شيء قليل لا يكفينا حتى نرجع ويزيدنا كيل أخينا، أوْ ذلك الحِمل الذي يزيدنا لبعير أخينا كيل قليل عنده، يسهل عليه لا يتعاظمه، فلا يمنعنا منه. كأنهم اسْتَقَلَّوا ما كيل لهم؛ فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك ويزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. وقيل: إنه من كلام يعقوب عليه السلام، والمعنى: أن حمل بعير شيء قليل لا يخاطرَ لمثله بالولد. {قال لن أرْسِلهُ معكم}؛ لأني رأيت منكم ما رأيت، {حتى تُؤتون موثقاً من الله}؛ حتى تعطوني ما أثق به من عهد الله، وتحلفوا ليَ الأيمان الموثقة {لتأتنني به} في كل حال، {إلا أن يُحاطَ بكم}؛ إلا أن تغلبوا، ولا تطيقوا الإتيان به. أو: إلا أن تهلكوا جميعاً ويحيط الموت بكم {فلما آتَوْهُ موثقَهم}؛ عهدهم وحلفوا له، {قال} أبوهم: {الله على ما نقولُ} من طلب الموثق وإتيان الولد {وكيل} أي: مطلع رقيب، لا يغيب عنه شيء. ثم وصاهم {وقال} لهم: {يا بَنيّ لا تدخلوا من بابٍ واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقةٍ}. وكانت في ذلك العهد خمساً: باب الشام، وباب المغرب، وباب اليمن، وباب الروم، وباب طَيْلون. فقال لهم: ليدخل كل أخوين من باب، خاف عليهم العين؛ لأنهم أهل جمال وأُبَّهة، مشتهرين في مصر بالقربة والكرامة؛ فإذا دخلوا كبكبة واحدة أصابتهم العين. ولعل لم يوصهم بذلك في المرة الأولى؛ لأنهم كانوا مجهولين حينئذٍ، وللنفس آثار من العين، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «العَينُ حَقٌّ تُدخِل الرَّجُلَ القَبرَ والجَمَلَ القِدرَ». وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ منها، بقوله: «اللهم إنِّي أَعُوذ بك مِن كَلِّ نَفسٍ هَامَّةٍ، وعَينٍ لامَّةٍ» يؤخذ من الآية والحديث: التحصن منها قياماً برسم الحكمة. والأمر كله بيد الله. ولذلك قال يعقوب عليه السلام: {وما أغني عنكم من الله من شيء} مما قُضي عليكم بما أشرت به عليكم، والمعنى: أن ذلك لا يدفع من قدر الله شيئاً، فإن الحذر لا يمنع القدر، {إن الحُكم إلا لله} فما حكم به عليكم لا ترده حيلة، {عليه توكلتُ وعليه فليتوكل المتوكلون} أي: ما وثقت إلا به، ولا ينبغي أن يثق أحد إلا به. وإنما كرر حذف الجر؛ زيادة في الاختصاص؛ ترغيباً في التوكل على الله والتوثق به. الإشارة: رُوي أن إخوة يوسف لما رجعوا عنه صاروا لا ينزلون منزلاً إلا أقبل عليهم أهل ذلك المنزل بالكرامات والضيافات، فقال شمعون: لما قدمنا إلى مصر ما التفت إلينا أحد، فلما رجعنا صار الناس كلهم يكرموننا؟ فقال يهوذا: الآن أثر الملك عليكم، ونور حضرته قد لاح عليكم. ه. قلت: وكذلك من قصد حضرة العارفين لا يرجع إلا محفوفاً بالأنوار، معموراً بالأسرار، مقصوداً بالكرامة والإبرار. قوله تعالى: {فأرسل معنا أخانا...} إلخ؛ قال الأستاذ القشيري: المحبة غيورٌ؛ لما كان ليعقوب تَسَلٍّ عن يوسف برؤية بنيامين، أبت المحبة إلا أن تظهر سُلطانها بالكمال فغارت على بنيامين أن ينظر إليه يعقوب بعين يوسف. ه. قلت: وكذلك الحق تعالى غيور أن يرى في قلب حبيبه شيئاً غيره، فإذا رأى أزاله عنه، وفرق بينه وبين ذلك الشيء، حتى لا يُحب شيئاً سوى محبوبه. هذا مما يجده أهل الأذواق في قلوبهم. وقوله تعالى في وصية يعقوب: {لا تدخلوا من باب واحد}، فيه إشارة إلى أن الدخول على الله لا يكون من باب واحد بحيث يلتزم المريد حالة واحدة وطريقة واحدة؛ كالعزلة فقط، أو الخلطة فقط، أو الصمت على الدوام، أو ذكر الاسم على الدوام. بل لا بد من التلوين قبل التمكين وبعده؛ فالعزلة على الدوام: مقام الضعف، والخلطة من غير عزلة بطالة. بل لا يكون عارفاً حتى يعرف الله، ويكون قلبُه معه في العزلة والخلطة، والصمت والكلام، والقبض والبسط، والفقد والوجد، ويترقى من ذكر الاسم إلى الفكرة والنظرة، كما هو عند أهل الفن. وقوله تعالى: {عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون}، فيه تهييج على مقام التوكل، وحث على الثقة بالله في جميع الأمور. وفي ذلك يقول الشاعر: تَوَكَّل على الرَّحمن في كُلِّ حَاجَةٍ *** وَثِق بالله، دَبَّر الخلق أجمعْ وضَع عَنكَ هَمَّ الرِّزْقِ؛ فالرَّبُّ ضَامِنٌ *** وكفّ عن الْكَونَينِ والخلق أَربع قوله: «والخلق أربع» أراد العالم العلوي والسفلي، والدنيا والآخرة. وكلها أكوان مخلوقة يجب كف البصر والبصيرة عن الميل إليها، والوقوف معها. والله تعالى أعلم.
{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)} قلت: (ما كان): جواب «لما»، و(إلا حاجة): استثناء منقطع. و(جزاؤه): مبتدأ، و(من): شرطية أو موصولة، وخبرها: (فهو جزاؤه)، والجملة: خبر جزاء الأول. أو (جزاؤه): مبتدأ و(من) خبر، على حذف مضاف، أي: جزاؤه أخذ من وُجد في رحله، وتم الكلام، و(فهو جزاؤه): جملة مستقلة تقريرية لما قبلها. يقول الحق جل جلاله: {ولمّا دخلوا من حيثُ أمرهم ابُوهم} أي: من أبواب متفرقة في البلد، {ما كان يُغني عنهم} أي: ما أغنى عنهم رأي يعقوب واتَّبَاعهم له {من الله من شيء} مما قضى عليهم، فاتُّهموا بالسرقة وظهرت عليهم، فأخذ بنيامين الذي كان الخوف عليه، وتضاعفت المصيبة على يعقوب، {إلا حاجةً}: لكن حاجة {في نفس يعقوب} يعني: شفقته عليهم، وتحرزه من أن يعانوا، {قضاها}؛ أظهرها ووصى بها. {وإنه لَذُو علم لمَا علمناه} بالوحي ونصب الدليل. ولذلك قال: {وما أغنى عنكم من الله من شيء}؛ فلم يغتر بتدبيره، ففيه تنزيه ليعقوب عن الوقوف مع الأسباب والعوائد، ورفع إيهام وقوفه مع عالم الحكمة. {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} سر القدر؛ وأنه لا ينفع منه الحذر. قال ابن عطية: قوله: {ما كان يغني عنهم من الله من شيء}، معناه: ما درأ عنهم قدراً؛ لأنه لو قَُضِي أن تصيبهم عين لأصابتهم، مفترقين أو مجتمعين. وإنما طمع يعقوب عليه السلام أن تصادف وصيته القدر في سلامتهم. ثم أثنى الله عز وجل على يعقوب بأنه لقن مما علمه الله من هذا المعنى، واندرج غيره في ذلك العموم، وقال: إن أكثر الناس ليس كذلك. ه. {ولما دخلوا على يوسفَ آوى إليه أخاه} أي: ضم إليه بنيامين على الطعام، أو في المنزل. رُوي أنه أضافهم، فأجلسهم اثنين اثنين، فبقي بنيامين وحيداً فبكى، وقال: لو كان يوسف حياً لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته، ثم قال: لينزل كل اثنين بيتاً، وهذا لا ثاني له فيكون معي، فبات عنده، وقال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد إذاً مثلك، ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، {قال إني أنا أخوك} وعرفه بنفسه، {فلا تبتئس} ولا تحزن {بما كانوا يعملون} في حقنا من الأذى، أو: لا تحزن بما يعمله فتياني، ولا تبالي بما تراه في تحيُّلي في أخذك. {فلما جَهَّزهُم بجَهَازِهمْ جعل السِّقايةَ}، التي هي الصواع، {في رَحْلِ أَخيه}، وهي إناء يشرب بها الملك، ويأكل فيها، وكان من فضة، وقيل: من ذهب. وقيل: كان صاعاً يُكال به. وقصد بجعله في رحل أخيه أن يحتال على إمساكه معه؛ إذ كان شَرْعُ يعقوب أن من سرق استعبده المسروق منه. {ثم أذَّن مؤَذِّنٌ} بعد أن انصرفوا: {أيتها العير إنكُم لسارقون}، والخطاب لإخوة يوسف، وإنما استحل رميهم بالسرقة مع علمه بانهم أبرياء؛ لما في ذلك من المصلحة في المآل، وبوحي لا محالة، وإرادة من الله تعالى عَنَتُهم بذلك، يقويه قوله تعالى: {كذلك كدنا ليوسف}، ويمكن من أن يكون فيه تورية، وفيها مندوحة عن الكذب، أي: إنكم لسارقون يوسف من أبيه، حين باعوه. {قالوا وأقبلُوا عليهم ماذا تفقدون} أي: أيُّ شيء ضاع منكم؟ والفقد: غيبة الشيء عن الحس. {قالوا نَفقِدُ صُوَاعَ الملكِ} الذي يكيل به، أو يشرب فيه، {ولمن جاء به حِمْلُ بعيرٍ} من الطعام، {وأنا به زعيم} كفيل أؤديه إلى من رده. وفيه دليل على جواز الجعل، وضمان الجعل قبل تمام العمل. قاله البيضاوي. {قالوا تالله لقد عَلِمْتُم ما جئنا لنُفسدَ في الأرض وما كنا سارقين} فيما مضى، استشهدوا بعلمهم بديانتهم على براءه أنفسهم؛ لما عرفوا منهم من الديانة والأمانة في دخولهم أرضهم، حتى كانوا يجعلون الأكمة في أفواه إبلهم؛ لئلا تنال زرع الناس، {قالوا فما جزاؤه} أي: السارق، {إن كنتم كاذبين} في ادعاء البراءة. {وقالوا جزاؤه مَن وُجِدَ في رَحْلهِ فهو جزاؤه}؛ يحبس في سرقته، ويُسْتَرَقّ للمسروق منه، وهذا كان قصد يوسف عليه السلام، وهي كانت شريعة يعقوب. وكانت أيضاً شريعتنا في أول الإسلام ثم نسخ بالقطع. ثم قالوا: {كذلك نجزي الظالمين} بالسرقة. {فَبَدأَ} المؤذن أو يوسف؛ لأنهم رُدُّوا إلى مصر، أي: بدأ في التفتيش، {بأوعيتِهم قبلَ وعَاءِ أخيه} بنيامين، تقية للتهمة، {ثم استخرجها}؛ أي: السقاية، أو الصواع؛ لأنه يُذكر ويُؤنث، {من وعاءِ أخيه} {كذلك}، أي: مثل ذلك الكيد {كِدْنَا ليوسفَ} أي: علمناه الحيلة بالوحي في أخذ أخيه، {ما كان ليَأخُذَ اخاه في دين الملك} ملك مصر؛ لأن دينه كان الضرب وتغريم ضعف ما أخذ دون الاسترقاق. {إلا أن يشاءَ اللهُ} أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك. أو: لكن أخذه بمشيئة الله وإرادته. {نرفعُ درجات من نشاء} بالعلم والعمل، كما رفعنا درجته، {وفوق كلّ ذي علم عليم} أرفع درجة منه. قال البيضاوي: واحتج به من زعم أنه تعالى عالم بذاته؛ إذ لو كان ذا علم لكان فوقه من هو أعلم منه أي: لدخوله تعالى في عموم الآية والجواب: أن المراد كل ذي علم من الخلق؛ لأن الكلام فيهم، ولأن العليم هو الله تعالى. ومعناه: الذي له العلم البالغ، ولأنه لا فرق بينه وبين قولنا: فوق كل العلماء عليم، وهو مخصوص. ه. قلت: وقد ورد ثبوت العلم له تعالى في آيات وأحاديث. كقوله تعالى: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] {أُنزِلِ بِعِلْمِ الله} [هود: 14]، «وإني على عِلمٍ من عِلمِ اللهِ علَّمَنيهِ» إلى غير ذلك مما هو صريح في الرد عليهم. الإشارة: يؤخذ من قوله تعالى: {ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم}: امتثال أمر الأب فيما يأمر وينهى. ولا فرق بين أب البشرية وأب الروحانية وهو الشيخ، فامتثال أمره واجب على المريد، ولو كان فيه حتف أنفه، وأمره مقدم على أمر الأب كما تقدم في سورة النساء. وقد قالوا: أركان التصوف ثلاث: الاجتماع، والاستماع، والاتباع. وقوله تعالى: {ما كان يُغني عنهم من الله شيء إلا حاجة...} الخ: فيه الجمع بين مراعاة القدرة والحكمة، فالقدرة تقتضي التفويض؛ إذ لا فعل لغير الله، والحكمة تقتضي الحذر، واستعمال الأسباب؛ لأن الحكمة رداء للقدرة. فالكمال هو الجمع بينهما؛ ستراً لأسرار الربوبية، فالباطن ينظر لتصريف القدرة، والظاهر يستعمل أستار الحكمة. وقوله تعالى: {فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رَحْل أخيه...} الآية. هذا من فعل أهل التصريف بالله، المأخوذين عنهم، لا يدخل تحت قواعد الشرع؛ لأن فاعله مفعول به، أو ناظر بنور الله إلى غيب مشيئة الله، كأفعال الخضر عليه السلام. قال الورتجبي: إن الله سبحانه إذا خصَّ نبياً، أو ولياً أإلبسه صفاته بتدريج الحال؛ ففي كل حالة له يكسوه نوراً من صفته، فمن جملة صفاته: كيد الأزل ومكر الأبد، فكسى علم كيده قلب يوسُفَ، حتى كاد برؤية كيد الله الأزلي، فعرفه فيه اسرار لطف صنائعه، وعلم حقائق أفعاله وقدرته. ه. وقوله: {نرفع درجات من نشاء}: أي بالعلم بالله؛ كالكشف عن أسرار ذاته وأنوار صفاته، والتخلق بمعاني أسمائه، والتحقق بمقامات اليقين، ومنازل السائرين. وهذه درجات المقربين، وليس فوقها إلا درجة الأنبياء والمرسلين. أو بالعلم بأحكام الله وشرائعه؛ كالعلم بأحكام العبادات والعادات، وسائر المعاملات. وهذه درجات عامة أهل اليمين من العلماء الأتقياء والصالحين، ومنتهى درجاتهم هي ابتداء درجات العارفين المقربين، ثم الأنبياء والمرسلين. {وفوق كل ذي علم عليم}، ومنتهى العلم إلى الله العظيم.
{قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)} قلت: معنى الشرط والجواب: إن ثبت أن بنيامين يسرق فقد سرق أخ له، أي: سرقته كسرقة اخيه، و(مكاناً): تمييز. يقول الحق جل جلاله: قال إخوة يوسف، لما ظهرت السرقة عليهم: {إن يسرقْ} بنيامين {فقد سرق أخٌ له} أخوه يوسف {من قبل}، فهذا الأمر إنما صدر من ابْنَي راحيل، لا منا، قصدوا بذلك رفع المضرة عن أنفسهم، ورموا بها يوسف وشقيقه، وهذه السرقة التي رموه بها؛ قيل: كانت ورثت عمته من أبيها منطقة، وكانت تخصُّ يوسف وتحبه، فلما شب، أراد يعقوب انتزاعه منها، فشدت المنطقة على وسطه، ثم اظهرت ضياعَها، ففتَّش عليها، فوجدت مشدودة على وسطه، فصارت أحق به في حكمهم وقيل: كان لجده من أمه صنم من ذهب، فسرقه وكسره، وألقاه في الجيف. وقيل: كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل. {فأسرَّها يوسفُ في نفسه ولم يُبدها لهم} أي: أخفى هذه الإجابة، ولم يكذبهم فيها. أو: الحزازة التي وجد في نفسه من قولهم: {فقد سرق أخ له من قبل}؛ أي: أسر كراهية مقالتهم. أو: المقالة التي يفسرها قوله: {قال أنتم شرُّ مكاناً}؛ أي: قال في نفسه خفية: أنتم شر مكاناً، أي: انتم أقبح منزلة في السرقة بسرقتكم أخاكم، أو بسوء صنيعكم بما فعلتم معي. {والله أعلم بما تَصِفُون}، وقد علم سبحاته أن الأمر ليس كما تصفون، فهو إشارة إلى كذبهم فيما نسبوا إليه من السرقة. {قالوا يا أيها العزيزُ إن له أباً شيخاً كبيراً} في السن، أو القدر، ذكروا حاله؛ استعطافاً له، وكانوا أعلموه بشدة محبة أبيه فيه، {فخُذ أحدَنا مكانه}؛ فإن أباه ثكلان، أي: حزين على أخيه الهالك، يستأنس به، {إنا نراك من المحسنين} إلينا، فأتمم إحسانك، أو من المتعودين الإحسان فلا تغير إحسانك. {قال معاذَ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده} فإنَّ أَخْذَ غيره ظلم، فلا آخذ أحداً مكانه؛ {إنا إذاً لظالمون} في مذهبكم؛ لأن الله أمرنا باسترقاق السارق؛ فاسترقاق غيره ظلم. الإشارة: النفس الأمارة من شأنها الانتصار، ودفع النقائص عنها والعار. والنفس المطمئنة من شأنها الاكتفاء بعلم الله، والرضا بما يجري به القضاء من عند الله، فإذا اختلجها شيء من الانتصار أَسَرَّتْه، ولم تخرجه إلى حالة الإظهار. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: آداب الفقير المتجرد أربعة أشياء: الحرمة للأكابر، والرحمة للأصاغر، والانتصاف من نفسه، وعدم الانتصار لها. ه. فالفقير إذا انتصر لنفسه فقد نقض العهد مع ربه، فيجب عليه التوبة. وقالوا: [الصوفي دمه هدر، وعرضه وماله مباح]. يعني: أنه لا ينتصر لنفسه، فكل من آذاه لا يخاف من جانبه؛ فكأنه مباح، مع كونه حراماً بالشريعة، بل هو أشد حرمة من غيره. والله تعالى أعلم.
|